ما أسباب ارتفاع فواتير المياه؟

لا خلاف إطلاقا على أهمية تخفيف الدعم الحكومي على الاستهلاك المحلي للموارد الناضبة، فهو أحد الإصلاحات الهيكلية التي طالما نشدناها جميعا منذ عدة أعوام، فعدا ما يمثله من أعباء مكلفة جدا على كاهل المالية العامة والاقتصاد الوطني، فقد تأكد انحراف نتائجه المتحققة منه عن الأهداف النهائية التي لأجلها تحملت أعباءه الدولة؛ حيث نتج عن العمل بآلية التحفيز “الدعم” الحكومي المعمم استفادة الشرائح والقطاعات غير المستحقة له من الأصل، أكثر بكثير مقارنة بالحصص التنموية التي حصلت عليها الشرائح الاجتماعية الأكثر استحقاقا له، وهي الشرائح المستهدفة في الأساس من كل تلك البرامج والسياسات التحفيزية.

بدأت تلك الإصلاحات متأخرة مع مطلع العام الجاري، وقدرها أن تستمر وتتطور طوال الأعوام المقبلة، آخذة في عين الاعتبار عدم المساس بالشرائح الاجتماعية المستحقة، بل اتخاذ الوسائل كافة التي تتحمل تعويضها ماديا بمواجهة الآثار العكسية المحتملة على حياتها المعيشية، نتيجة التخفيف المتدرج للتحفيز “الدعم” الحكومي على الاستهلاك، وصولا خلال أقل من عقد زمني مقبل إلى تحرير كامل للاقتصاد الوطني، وفي الوقت ذاته المحافظة على استقرار وسلامة المستوى المعيشي للشرائح الاجتماعية ذات الدخلين الأدنى والمتوسط.

إلا أن الصدمة غير المتوقعة في السلة الواسعة من سياسات الإصلاحات الأخيرة، أتت مفاجئة من الجانب الأكثر حساسية ممثلا في إعادة تسعير فواتير استهلاك المياه، التي نتج عنها ارتفاع قياسي جدا في تكاليفها على مختلف شرائح المشتركين، بل لقد جاءت قوية الأذى على الشرائح الأدنى والمتوسطة الاستهلاك بصورة لم تجد حتى تاريخه تفسيرا منطقيا من قبل الشركة الوطنية للمياه!

وبغض النظر عن ابتعاد التسعير الجديد لفواتير استهلاك المياه عن التصريحات الأولى لكل من وزارة المياه والكهرباء والشركة الوطنية للمياه، حينما وصلت النسبة القصوى لارتفاع الأسعار على الشريحة الأولى ذات الاستهلاك الأدنى من 50 مترا مكعبا (10 هللة للمتر المكعب) إلى 3900 في المائة! التي تقتضي المصلحة الوطنية والاقتصادية إعادة النظر إليها مرة أخرى، مع عدم الإخلال بالتوجهات الوطنية الجادة اللازمة للمضي قدما في طريق إصلاحات الاقتصاد الوطني، وعدم العودة إلى الوراء مهما كلف الأمر، والتأكيد على إيجاد خطة انتقال متدرجة ومتزنة وغير متسرعة، لا يراد على الإطلاق أن تنتج عنها نتائج عكسية قد تلغي تحت مظلة آثارها السلبية أغلب الأهداف الإيجابية التي نصبو إليها جميعا.

أؤكد أمام كل ما تقدم ذكره، والأهمية التنموية القصوى لإعادة معالجته بما لا يتعارض مع الأهداف الوطنية من تلك الإصلاحات، وأيضا بما لا تترتب عليه أضرار جسيمة على الاقتصاد والمجتمع على حد سواء، أن جزءا كبيرا من الصدمة التي خلفتها تلك التغييرات في فوترة استهلاك المياه إن لم يكن كلها؛ قد نتج عن أسباب أخرى لا علاقة لها بكل ما تقدم ذكره! إذ كشفت الوقائع والمشاهدات الفعلية التي حدثت للمشتركين، عن وجود اختلاف كبير جدا بين قراءات عدادات المياه التي بناء عليها تم احتساب فواتير الاستهلاك من جانب، عن تلك الأرقام الفعلية التي ظهرت على عدادات المشتركين من جانب آخر، ما يؤكد وجود خلل جوهري لا يمكن تجاوزه في آليات احتساب قيمة فواتير الاستهلاك، ولهذا جاءت النتائج صادمة إلى حد بعيد جدا لمختلف الأطراف، عدا كل من وزارة المياه والكهرباء والشركة الوطنية للمياه، اللتين قذفتا ردود الفعل المجتمعية من تلك النتائج مرة في خانة عدم وعي أفراد المجتمع، ومرة أخرى في عدم ارتفاع أسعار تلك الفواتير، وأنها أقل من غيرها من الفواتير التي يتحملها المشتركون.

إلا أنه وعن جدارة كاملة؛ كان وعي المجتمع السبب الأول وراء كشف تلك المفارقات الهائلة بين قيم فواتير الاستهلاك من جانب، ومن جانب آخر التكلفة الحقيقية والصحيحة للاستهلاك، بناء على القراءة الصحيحة لعداد المياه، كما أثبته المشتركون عند اعتراضهم المقدم للشركة الوطنية للمياه. أما بخصوص عدم ارتفاع تكلفة فواتير المياه التي نتجت في الأصل عن خطأ قراءة العدادات، وتجاوز بعضها سقف الـ 8000 ريال شهريا، فلا أقل من القول هنا إنها جاءت حتى أعلى من متوسط الراتب الشهري للعاملين السعوديين في كل من القطاعين الحكومي والخاص! إن عملية تصحيح جميع فواتير الاستهلاك التي تم الاعتراض عليها من قبل المشتركين، وتسويتها بعد التحقق والمراجعة من قبل العاملين في الشركة الوطنية للمياه، تثبت بما لا يدع مجالا للشك وجود خلل كبير في آليات الفوترة لدى الشركة، وهو ما سبق أن تعرضت له إحدى شركات الاتصالات الوطنية الكبرى قبل عدة أعوام، إلا أن الفارق بين الشركتين، أن شركة الاتصالات رجعت آنذاك إلى الحق وقامت بتصحيح الخلل لديها، وأعلنت اعتذارها لعموم المشتركين لديها، وانتهت أزمتها خلال فترة وجيزة من حدوثها، في حين لم تقدم الشركة الوطنية للمياه على تلك الخطوة الشجاعة نفسها التي انتهجتها شركة الاتصالات، بل إنها في الوقت الذي يقوم العاملون فيها بتسوية وإصلاح تلك الأخطاء في فواتير الاستهلاك، لا تزال تتهم المجتمع بالإسراف في الاستهلاك، وإنه يتحمل المسؤولية كاملة تجاه ارتفاع أسعار تلك الفواتير!

لقد تسببت هذه الفوضى لدى الشركة الوطنية للمياه فيما يتعلق بخلل آليات الفوترة، في أن أغلب أسباب ارتفاع قيم الفواتير قد نتج عن تغيير أسعار الاستهلاك إن لم يكن كلها، وهو الأمر غير الصحيح على الإطلاق على الرغم من التحفظ الذي أثبته في مطلع المقال على تلك التغييرات، تحديدا فيما يتعلق بالشرائح الأدنى استهلاكا، إلا أنه في العموم لا يمت إلى الصحة من قريب أو بعيد! فالخلل بنسبة كبيرة جدا ثبت أنه مرتبط بضعف آليات الفوترة لدى شركة المياه. الحل المطلوب هنا ليس بالأمر المستحيل أو المستعصي على التحقق، بل على العكس تماما؛ يمكن للشركة الوطنية للمياه أن تركز جهودها ومواردها المتاحة لأجل حله في أقصر فترة ممكنة، وتجنيب نفسها والمشتركين لديها والمجتمع كافة الكثير من العناء وتبادل الاتهامات، وهو المأمول على وجه السرعة منها، وقبلا منها وزارة المياه والكهرباء، والرجوع إلى الحق فضيلة عظيمة، لا يظن أحد منا جميعا أن بيننا من قد يتأخر عن الفوز بها. والله ولي التوفيق.

اترك تعليقاً

error: Content is protected !!